حقل الاختيارات والترجيحات



أ أ

متى يُصار إلى الترجيح؟

الواجب عند التعارض الجمعُ، فإنْ لم يمكن صِيْر إلى الترجيح، قال الشافعي (ت:204هـ): «ولزم أهلَ العلمِ أن يُمضوا الخبرين على وجوههما، ما وجدوا لإمضائهما وجهًا، ولا يعدُّونهما مختلفين وهما يحتملان أن يُمضيا، وذلك إذا أمكن أن يمضيا معًا، أو وُجد السبيلُ إلى إمضائهما، ولم يكن منهما واحدٌ بأوجب من الآخر»(1) .

وكذلك الواجب في علم التفسير؛ حملُ تفسير الآية على ما تحتمله من معاني، فكل «ما تسمح تراكيبه الجارية على فصيح استعمال الكلام البليغ، باحتماله من المعاني المألوفة للعرب في أمثال تلك التراكيب مظنونًا بأنه مراد لمنزله، ما لم يمنع من ذلك مانع صريح أو غالب من دلالة شرعية أو لغوية أو توقيفية»(2) .

قال ابن عاشور (ت:1393هـ): «وعلى هذا القانون؛ يكون طريقُ الجمع بين المعاني التي يذكرها المفسرون، أو ترجيح بعضها على بعض، وقد كان المفسرون غافلين عن تأصيل هذا الأصل، فلذلك كان الذي يرجحُ معنى من المعاني التي يحتملها لفظُ آية من القرآن؛ يجعل غيرَ ذلك المعنى مُلغى، ونحن لا نتابعهم على ذلك، بل نرى المعاني المتعددة التي يحتملها اللفظ بدون خروج عن مهيع الكلام العربي؛ معانيَ في تفسير الآية»(3) .

بل يُعَدُّ ذلك من إعجاز القرآن، كما قال ابن عاشور (ت:١٣٩٣هـ): «وقد تكثر المعاني بإنزال لفظِ الآية على وجهين أو أكثر تكثيرًا للمعاني مع إيجاز اللفظ، وهذا من وجوه الإعجاز»(4) .

وعليه فإن خروج العالم بقول يجمع الأقوال محلَّ الخلاف؛ لا يُعدُّ ترجيحًا، بل هو جمعٌ، ويكون ذلك في الخلاف الذي يمكن فيه الجمع، وهو المسمَّى في علم أصول التفسير بـ (خلاف التنوع).

وينبغي التنبه إلى ما يأتي:

أولًا: أن النظر في التعارض والترجيح يكون إلى الأدلة، لا إلى الأقوال المجردة، فلا يتم ترجيح قولٍ إن لم يُعلم دليله.

ثانيًا: ذَكَرَ بعضُ العلماء أنه عند عجز العالم عن الترجيح يُصار إلى التَخَيُّرِ بين الأقوال(5) . وهذا التخير -وقد يُطلق عليه: الاختيار- لا يُقصد به معنى الاختيار هنا، بل يُقصد به اختيار قولٍ من الأقوال في المسألة عند عدم القدرة على الترجيح أو الاختيار بينها، وقد يقع من لم يحرر هذه المصطلحات في الخلط بين معنى الاختيار هنا، وبين معنى الاختيار المبحوث في هذا الحقل، فالاختيار المقصود في هذا الحقل هو الذي يكون بعد دراسة الأدلة ومعرفتها مع عدم إمكانية الجمع، وليس الذي يكون عند العجز عن الترجيح، وهو فرقٌ دقيق ينبغي على الباحث ملاحظته عند دراسة اختيارات المفسِّر.

ثالثًا: الصحيح أنه إذا تحقَّقَ الترجيح عند العالم؛ وجب العمل بالراجح وإهمال الآخر(6) .

قال ابن تيمية (ت:728هـ): «فالواجب على المجتهد أن يعمل بما يعلم أنه أرجح من غيره، وهو العمل بأرجح الدليلين المتعارضين»(7) .

رابعًا: هل يصح في المسائل العلمية أن يختار العالمُ قولًا بلا سبب:

وهذه من المسائل الدقيقة أيضًا، إذ قد تتعارض الأدلة، ويميل العالمُ إلى قولٍ دون آخر مع عدم بيانه لوجه ميله وترجيحه، وقد يُعتد بهذا الترجيح وإن لم يذكر العالمُ سببه، كما قال ابن تيمية (ت:728هـ): «وأما الترجيح بمجرد الاختيار بحيث إذا تكافأت عنده الأدلة يرجح بمجرد إرادته واختياره، فهذا ليس قول أحد من أئمة الإسلام وإنما هو قول طائفة من أهل الكلام... لكن قد يقال: القلب المعمور بالتقوى إذا رجح بإرادته فهو ترجيح شرعي... ولكن إذا اجتهد السالك في الأدلة الشرعية الظاهرة فلم ير فيها ترجيحًا وألهم حينئذ رجحان أحد الفعلين مع حسن قصده وعمارته بالتقوى فإلهام مثل هذا دليل في حقه، قد يكون أقوى من كثير من الأقيسة الضعيفة، والأحاديث الضعيفة، والظواهر الضعيفة، والاستصحابات الضعيفة التي يحتج بها كثير من الخائضين في المذهب والخلاف وأصول الفقه...وليس المقصود هنا بيان أن هذا وحده دليل على الأحكام الشرعية؛ لكن إن مثل هذا يكون ترجيحًا لطالب الحق إذا تكافأت عنده الأدلة السمعية الظاهرة، فالترجيح بها خير من التسوية بين الأمرين المتناقضين قطعًا فإن التسوية بينهما باطلة قطعًا»(8) .


(1) الرسالة: (341). وانظر: مذكرة أصول الفقه للشنقيطي: (376).

(2) التحرير والتنوير: (1 / 94).

(3) السابق: (1 / 100).

(4) السابق: (1 / 94).

(5) نقله الزركشي عن الجبائي وابنه أبي هاشم، ونقله الرازي والبيضاوي عن القاضي. انظر: البحر المحيط: (6/ 115).

(6) انظر: الإحكام في أصول الأحكام للآمدي: (4 / 239)، والبحر المحيط للزركشي: (6 / 130).

(7) مجموع الفتاوى: (13 / 115).

(8) مجموع الفتاوى: (10 / 477) وما قبله.