حقل الاختيارات والترجيحات



أ أ

طريقة دراسة المسألة الخلافية

ينبغي للباحث في هذا الحقل أن يسير على المنهج الصحيح في دراسة المسائل الخلافية، وفق ما اعتمده العلماء في هذا الباب، وهو أمرٌ مسلوك في كتب الخلاف، وطريقة ذلك أن يرتب المسألة كالآتي:

أولًا: ذكر عنوان المسألة: وهنا ينبغي للباحث أن يحدد بدقة محل الخلاف من خلال العنوان، فلا يصح مثلًا أن يقول في عنوان المسألة: (الخلاف في قوله تعالى: ﴿ لِّتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ وَتُسَبِّحُوهُ﴾ [الفتح])، فالعنوان هنا غير معبرٍ عن محل الخلاف، بل ينبغي أن يقول: (الخلاف في مرجع الضمير في قوله تعالى﴿وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ﴾)، فهنا اتضح أن الخلاف واقعٌ في مَنْ المقصود بالضمير في هذا الجزء من الآية، هل هو راجعٌ للفظ الجلالة (الله) أو للرسول ؟.

ثانيًا: تحرير محل النزاع: وهذه المرحلة من أهم مراحل دراسة المسألة، حيث يتم من خلالها بيانُ محل الخلاف والنص عليه، والعلماء يبدؤون بمحل الاتفاق قبل محل الخلاف، فتقول مثلًا في المسألة السابقة:

تحرير محل النزاع:

اتفق العلماء على أن المقصود في قوله تعالى:﴿وَتُسَبِّحُوهُ﴾ الله تعالى، ثم اختلفوا بعد ذلك في المقصود بالضمير في قوله تعالى: ﴿وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ﴾.

فتبدأ بذكر محل الاتفاق، ثم بعده محل الخلاف بالتعيين(1) .

ثالثًا: ذكر الأقوال معزوة إلى قائليها: وفي هذه المرحلة يتنبه الباحث إلى قضايا مهمة:

  1. ذكر جميع الأقوال في المسألة، وعدم الاقتصار على ما ذكره المفسِّر الذي تتم دراسة ترجيحاته.
  2. ذكر القائلين بهذه الأقوال ابتداء بالصحابة ، ثم التابعين ، ثم من بعدهم من العلماء المحققين في التفسير، ويكون ترتيب القائلين بحسب سنة الوفاة، مع الحرص على ذكر تاريخ الوفاة بعد ذكر العالم.
  3. يجب أن يكون عزو الأقوال لقائليها من الكتب المعتمدة، فيعتمد في عزو الأقوال على الكتب كما يأتي:
    • العزو للصحابة والتابعين وأتباعهم ؛ يكون من الكتب المسندة، سواء في التفسير: كتفسير ابن جرير الطبري (ت:310هـ)، وابن أبي حاتم (ت:327هـ)، أو الحديث كالصحاح والسنن والمسانيد وغيرها، ثم الكتب التي عُنيت بجمع الروايات، كالدر المنثور للسيوطي (ت: ٩١١هـ).
    • وأما النقل عمن بعدهم من العلماء؛ فيكون عزو القول من كتب العالم نفسِه، فينقل قول الطبري (ت:310هـ) من كتابه، وابن عطية (ت:543هـ) من كتابه وهكذا.

    ولا ينقل قول عالمٍ من كتاب غيرهِ، إلا في حالتين:

    الأولى: أن يكون كتابه مفقودًا -وفي حكمه إن لم يكن له كتاب-، فينقله من غيره ويشير إلى ذلك.

    الثانية: أن لا يوجد قوله في كتابه، فيذكر الباحثُ قوله من المصدر الذي وقف عليه، مع الإشارة إلى عدم وجوده في كتابه الذي بين يديه.

  4. ترتب الأقوال بحسب القول الأقوى أو الأشهر، ثم الذي يليه في القوة أو الشهرة، وليس هناك طريقة معتمدة في هذا الباب، وإن كان هذا هو الأولى في ترتيب الأقوال، وقد سار عليها بعض العلماء.

قال ابن أبي حاتم (ت:327هـ) في بيان منهجه في ذكر التفسير: «فتحريت إخراج ذلك بأصح الأخبار إسنادًا، وأشبعها متنًا، فإذا وجدت التفسير عن رسول الله لم أذكر معه أحدًا من الصحابة ممن أتى بمثل ذلك، وإذا وجدته عن الصحابة فإن كانوا متفقين ذكرته عن أعلاهم درجة بأصح الأسانيد، وسميت موافقيهم بحذف الإسناد، وإن كانوا مختلفين ذكرت اختلافهم وذكرت لكل واحد منهم إسنادًا، وسميت موافقيهم بحذف الإسناد، فإن لم أجد عن الصحابة ووجدته عن التابعين عملت فيما أجد عنهم ما ذكرته من المثال في الصحابة، وكذا أجعل المثال في أتباع التابعين وأتباعهم»(2)

رابعًا: ذكر أدلة كل قول مع بيان وجه الاستدلال: وينبغي العناية بالأمور الآتية:

1- موضع ذكر الأدلة للأقوال: وهناك طريقتان في محل ذكر الأدلة:

الطريقة الأولى:

أن تُذكر الأدلة بعد ذكر القول مباشرة، فيقول: (القول الأول) وتحته: (أدلة القول الأول).

الطريقة الثانية:

أن تذكر الأدلة بعد سرد جميع الأقوال، فيضع عنوانًا: (أدلة الأقوال) ثم تحته (أدلة القول الأول) ويسردها، ثم (أدلة القول الثاني) وهكذا حتى ينتهي من ذكر جميع الأدلة لجميع الأقوال.

2- طرق سرد الأدلة للأقوال: وهي طرائق منها:

الطريقة الأولى:

أن تُنوع الأدلة بحسب مصدرها، فيبدأ بالأدلة من القرآن، ثم السنة، ثم الإجماع، ثم الآثار، ثم اللغة، ثم القياس، وهكذا.

مثال ذلك:

أدلة القول الأول:

أ - الأدلة من القرآن: وقد استدل أصحاب القول الأول بعدد من الآيات، وهي:

ب - الأدلة من السنة.

ج - الأدلة من الآثار.

د - الإجماع.

الطريقة الثانية:

أن تُنوع الأدلة إلى نوعين فقط، وهما: الأدلة النقلية، والأدلة العقلية، ثم تُنوع الأدلة داخلهما كما في هذا المثال:

أدلة القول الأول: استدل أصحاب القول بالنقل والعقل، كما يأتي:

أولًا: الأدلة النقلية:

واستدل أصحاب القول الأول بالكتاب، والسنة، والآثار الواردة عن الصحابة والتابعين:

أ - الأدلة من القرآن:

ب - الأدلة من السنة:

ج - الأدلة من الآثار:

ثانيًا: الأدلة العقلية:

واستدل أصحاب القول الأول بالأدلة العقلية، ومنها:

أ- القياس: (ويذكره).

ب - البراءة الأصلية: (ويذكره).

الطريقة الثالثة: أن تُسرد الأدلة بلا تنويع، مع ترقيم كل دليل، ابتداءً بالقرآن، ثم السنة، ثم الإجماع، ثم الآثار، ثم اللغة، ثم القياس، وأكثر الباحثين على هذه الطريقة، وإن كانت الأولى أدق في الترتيب.

3- بيان وجه الاستدلال من كل دليل:

وهو أمرٌ ذو أهميةٍ بمكانٍ في الاستدلال للأقوال، فلا يكفي ذكر الدليل دون بيان وجه الاستدلال منه؛ لأن وجه الاستدلال هو الرابط بين القول ودليله، وقد يخفى على القارئ هذا الربط، كما أن وجه الاستدلال هو المبين لسلامة الاستدلال من عدمه، وعليه تُسلط الاعتراضات على هذا الدليل من أصحاب الأقوال الأخرى عند مناقشة الأدلة.

خامسًا: مناقشة الأدلة:

ويكون ذلك بذكر الاعتراضات الواردة على كل دليل -إن وُجدت-، ثم بيان الجواب عن تلك الاعتراضات الواردة على القول الراجح، ولا شك أن القول السالم من الاعتراضات والذي سلمت أدلته؛ سيكون هو القول الراجح، ويكون ترتيب المناقشات كما في المثال الآتي

الدليل الأول:...........

الاعتراض على الدليل:...........

الجواب على الاعتراض:...........

سادسًا: بيان القول الراجح وسبب الترجيح:

وذلك بعد مناقشة الأدلة وبيان ما فيها، ويُذكر القول الراجح منها نظرًا للدليل، كما أنه ينبغي ذكر سبب الترجيح، وأشهر أسباب الترجيح هو: (قوة أدلة هذا القول وسلامتها من الاعتراضات القادحة فيها، وضعف أدلة القائلين بالأقوال الأخرى).


(1) كثيرًا ما تغيب هذه المرحلة عن دارسي المسائل الخلافية، فيُبدأ بذكر الأقوال مباشرة بعد ذكر العنوان!.

(2) تفسير القرآن العظيم: (١/ ١٤).